فصل: سئل: عمن حج عن الغير ليوفي دينه‏؟‏

/ﻪـ 
البحث:

هدايا الموقع

هدايا الموقع

روابط سريعة

روابط سريعة

خدمات متنوعة

خدمات متنوعة
الصفحة الرئيسية > شجرة التصنيفات
كتاب: مجموع فتاوى ابن تيمية **


/بسم الله الرحمن الرحيم

 كتاب الحج والعمرة

 سئل شيخ الإسلام ـ رحمه اللّه ورضي عنه ـ عن العمرة هل هي واجبة‏؟‏ وإن كان فما الدليل عليه‏؟‏

فأجاب‏:‏

فصل

والعمرة في وجوبها قولان للعلماء، هما قولان في مذهب الشافعي وأحمد، والمشهور عنهما وجوبها‏.‏ والقول الآخر ‏:‏ لا تجب، وهو مذهب أبي حنيفة، ومالك‏.‏

وهذا القول أرجح؛ فإن الله إنمـا أوجب الحـج بقـوله‏:‏ ‏{‏وَلِلّهِ عَلَى النَّاسِ حِجُّ الْبَيْتِ‏}‏ ‏[‏آل عمران‏:‏ 97‏]‏ ، لم يوجب العمرة، وإنما أوجب إتمامهما‏.‏ فأوجب إتمامهما لمن شرع فيهما، وفي الابتداء إنما أوجب الحج‏.‏ وهكذا سائر الأحاديث الصحيحة ليس فيها إلا إيجاب الحج؛ ولأن العمرة ليس فيها جنس غير ما في الحج، فإنها إحرام وإحلال، وطواف بالبيت، وبين /الصفا والمروة، وهذا كله داخل في الحج‏.‏

وإذا كان كذلك فأفعال الحج لم يفرض الله منها شيئًا مرتين، فلم يفرض وقتين، ولا طوافين، ولا سعيين، ولا فرض الحج مرتين‏.‏

وطواف الوداع ليس بركن، بل هو واجب، وليس هو من تمام الحج، ولكن كل من خرج من مكة عليه أن يودع؛ ولهذا من أقام بمكة لا يودع على الصحيح، فوجوبه ليكون آخر عهد الخارج بالبيت، كما وجب الدخول بالإحرام في أحد قولي العلماء لسبب عارض لا كون ذلك واجبًا بالإسلام، كوجوب الحج‏.‏

ولأن الصحابة المقيمين بمكة لم يكونوا يعتمرون بمكة، لا على عهد النبي صلى الله عليه وسلم، ولا على عهد خلفائه، بل لم يعتمر أحد عمرة بمكة على عهد النبي صلى الله عليه وسلم إلا عائشة وحدها، لسبب عارض‏.‏ وقد بسطنا الكلام على ذلك في غير هذا الموضع‏.‏

 وسئل عمن حج ولم يعتمر، وتركها إما عامدًا أو ناسيا‏.‏ فهل تسقط /عنه بالحج أم لا‏؟‏ وهل ذكر أحد في ذلك خلافًا أم لا‏؟‏

فأجاب‏:‏

الحمد لله رب العالمين، العمرة في وجوبها قولان مشهوران للعلماء، هما قولان للشافعي، وروايتان عن أحمد، والمشهور عن أصحابهما وجوبها، ولكن القول بعدم وجوبها قول الأكثرين؛ كمالك، وأبي حنيفة، وكلا القولين منقول عن بعض الصحابة‏.‏

والأظهر أن العمرة ليست واجبة، وأن من حج ولم يعتمر فلا شيء عليه، سواء ترك العمرة عامدًا، أو ناسيا؛ لأن الله إنما فرض في كتابه حج البيت بقوله‏:‏ ‏{‏وَلِلّهِ عَلَى النَّاسِ حِجُّ الْبَيْتِ‏}‏ ‏[‏آل عمران‏:‏ 97‏]‏ ‏.‏ ولفظ الحج في القرآن لا يتناول العمرة، بل هو سبحانه إذا أراد العمرة ذكرها مع الحج، كقوله‏:‏ ‏{‏وَأَتِمُّواْ الْحَجَّ وَالْعُمْرَةَ لِلّهِ‏}‏ ‏[‏البقرة‏:‏ 196‏]‏ ، وقوله‏:‏ ‏{‏فَمَنْ حَجَّ الْبَيْتَ أَوِ اعْتَمَرَ فَلاَ جُنَاحَ عليه أَن يَطَّوَّفَ بِهِمَا‏}‏ ‏[‏البقرة‏:‏ 158‏]‏ ، فلما أمر بالإتمام أمر بإتمام الحج والعمرة، وهذه الآية نزلت عام الحديبية سنة ست باتفاق الناس‏.‏ وآية آل عمران نزلت بعد ذلك، سنة تسع أو عشر، وفيها فرض الحج‏.‏

ولهذا كان أصح القولين أن فرض الحج كان متأخرًا‏.‏ ومن قال‏:‏ إنه فرض سنة ست فإنه احتج بآية الإتمام،وهو غلط، فإن الآية إنما أمر فيها بإتمامهما لمن شرع فيهما لم يأمر فيهابابتداء الحج والعمرة‏.‏ والنبي صلى الله عليه وسلم اعتمر عمرة الحديبية قبل أن تنزل هذه الآية، ولم يكن فرض عليه لا حج ولا عمرة، ثم لما صده المشركون أنزل الله هذه /الآية، فأمر فيها بإتمام الحج والعمرة، وبين حكم المحصر الذي تعذر عليه الإتمام؛ ولهذا اتفق الأئمة على أن الحج والعمرة يلزمان بالشروع، فيجب إتمامهما‏.‏ وتنازعوا في الصيام، والصلاة والاعتكاف‏.‏

وأيضًا، فإن العمرة ليس فيها جنس من العمل غير جنس الحج، فإنها إحرام وطواف وسعي وإحلال، وهذا كله موجود في الحج‏.‏ والحج إنما فرضه الله مرة واحدة لم يفرضه مرتين، ولا فرض شيئًا من فرائضه مرتين، لم يفرض فيه وقوفين، ولا طوافين؛ بل الفرض طواف الإفاضة، وأما طواف الوداع فليس من الحج، وإنما هو لمن أراد الخروج من مكة؛ ولهذا لا يطوف من أقام بمكة، وليس فرضًا على كل أحد، بل يسقط عن الحائض، ولو لم يفعله لأجزأه دم، ولم يبطل الحج بتركه بخلاف طواف الفرض، والوقوف‏.‏ وكذلك السعي لا يجب إلى مرة واحدة،والرمي يوم النحر لا يجب إلا مرة واحدة، ورمي كل جمرة في كل يوم لا يجب إلا مرة واحدة، وكذلك الحلق والتقصير لا يجب إلا مرة واحدة‏.‏

فإذا كانت العمرة ليس فيها عمل غير أعمال الحج ـ وأعمال الحج إنما فرضها الله مرة، لا مرتين ـ علم أن الله لم يفرض العمرة‏.‏

/والحديث المأثور في ‏(‏أن العمرة هي الحج الأصغر‏)‏، قد احتج به بعض من أوجب العمرة، وهو إنما يدل على أنها لا تجب؛ لأن هذا الحديث دال على حجين‏:‏ أكبر، وأصغر كما دل على ذلك القرآن في قوله‏:‏ ‏{‏يَوْمَ الْحَجِّ الأَكْبَرِ‏}‏ ‏[‏التوبة‏:‏ 3‏]‏ ، وإذا كان كذلك فلو أوجبناها لأوجبنا حجين‏:‏ أكبر، وأصغر‏.‏ والله تعالى لم يفرض حجين، وإنما أوجب حجًا واحدًا، والحج المطلق إنما هو الحج الأكبر، وهو الذي فرضه الله على عباده، وجعل له وقتًا معلومًا، لا يكون في غيره كما قال‏:‏ ‏{‏يَوْمَ الْحَجِّ الأَكْبَرِ‏}‏ ، بخلاف العمرة فإنها لا تختص بوقت بعينه، بل تفعل في سائر شهور العام‏.‏

ولأن العمرة مع الحج كالوضوء مع الغسل، والمغتسل للجنابة يكفيه الغسل، ولا يجب عليه الوضوء عند جمهور العلماء، فكذلك الحج؛ فإنهما عبادتان من جنس واحد‏:‏ صغري، وكبري‏.‏ فإذا فعل الكبري لم يجب عليه فعل الصغري، ولكن فعل الصغري أفضل وأكمل كما أن الوضوء مع الغسل أفضل وأكمل‏.‏

وهكذا فعل النبي صلى الله عليه وسلم وأصحابه، لكنه أمرهم بأمر التمتع وقال‏:‏ ‏(‏دخلت العمرة في الحج إلى يوم القيامة‏)‏، كما قد بسط في موضع آخر‏.‏ والله أعلم‏.‏

/ وسئل عن امرأة حجت حجة الإسلام،وما اعتمرت،وفي العام الثاني قصدت أن تحج عن بنتها، وكانت بالأول أحرمت بحج وعمرة، فهل عليها عمرة أخري‏؟‏

فأجاب‏:‏

لا عمرة عليها لما مضي، وأما إذا اعتمرت في هذا العام عن نفسها غير العمرة عن بنتها جاز ذلك‏.‏

 

وسئل ـ رحمه الله‏:‏

مــاذا يقــول أهـ ** ـل العـلم فــي رجــل

آتاه ذو العرش مـــالا ** حــــج واعتمـــرا

فـهـــزه الشــوق ** نحــو المصــطفى طربـا

أتـــرون الحــج أفضـ ** ـل أم إيــثاره الفـقرا

أم حــجــه عـــن ** أبيــه ذاك أفضــل أم

مــــاذا الـــذي يـا ** ســادتــي ظــهــرا

/فأفــتوا محـــبا لكـ ** ــم فـــديتكـمــو

وذكــركــم دأبه إن ** غـــاب أو حــضــرا

فأجاب ـ رضي الله عنه ‏:‏

نــقـــول فــيه ‏:‏ بأن ** الحـــج أفـــضل من

فــعـــل التـــصـدق ** والإعــطــاء للفـقرا

والحـــج عـــن والـ ** ــديه فـــيه بـرهما

والأم أسبـــق فـــي ** البــر الـــذي ذكــرا

لكــن إذا الفرض خـ ** ــص الأب كـــان إذًا

هــــو المقـــدم فيـ ** ـما يمــنع الضـــررا

كــمـــا إذا كـــان ** مـحــتاجًا إلى صــلـة

وأمـــه قـــد كــفاها ** مـــن بـرى البشــرا

هــــذا جـــوابك ** يــــا هـــذا مـــوازنـة

وليـــس مــفتيك ** معـــدودًا مـــن الشعرا

/ وسئل ـ رحمه الله ـ عن امرأة تملك زيادة عن نحو ألف درهم، ونَوَتْ أن تهب ثيابها لبنتها، فهل الأفضل أن تبقي قماشها لبنتها‏؟‏ أو تحج بها‏؟‏

فأجاب‏:‏

الحمد لله، نعم، تحج بهذا المال وهو ألف درهم، ونحوها‏.‏ وتزوج البنت بالباقي إن شاءت، فإن الحج فريضة مفروضة عليها، إذا كانت تستطيع إليه سبيلا‏.‏ ومن لها هذا المال تستطيع السبيل‏.‏

 

وسئل عن شيخ كبير وقد انحلت أعضاؤه‏.‏ لا يستطيع أن يأكل أو يشرب، ولا يتحرك، هل يجوز أن يستأجر من يحج عنه الفرض‏؟‏

فأجاب‏:‏

أما الحج فإذا لم يستطع الركوب على الدابة، فإنه يستنيب من يحج عنه‏.‏

/ وسئل‏:‏

هل يجوز أن تحج المرأة بلا مَحْرم‏؟‏

فأجاب‏:‏

إن كانت من القواعد اللاتي لم يحضن، وقد يئست من النكاح، ولامحرم لها، فإنه يجوز في أحد قولي العلماء أن تحج مع من تأمنه، وهو إحدى الروايتين عن أحمد، ومذهب مالك والشافعي‏.‏

وَقَــالَ ـ رَحِمهُ الله ‏:‏

 

فصل

يجوز للمرأة أن تحج عن امرأة أخرى باتفاق العلماء، سواء كانت بنتها، أو غير بنتها، وكذلك يجوز أن تحج المرأة عن الرجل عند الأئمة الأربعة، وجمهور العلماء كما أمر النبي صلى الله عليه وسلم المرأة الخثعمية أن تحج عن أبيها، لما قالت‏:‏ يا رسول الله، إن فريضة /الله في الحج على عباده أدركت أبي، وهو شيخ كبير‏.‏ فأمرها النبي صلى الله عليه وسلم أن تحج عن أبيها، مع أن إحرام الرجل أكمل من إحرامها‏.‏ والله أعلم‏.‏

وَقَــالَ ـ رَحِمهُ الله‏:‏

 

فصل

في الحج عن الميت، أو المعضوب بمال يأخذه إما نفقة، فإنه جائز بالاتفاق، أو بالإجارة أو بالجعالة على نزاع بين الفقهاء في ذلك، سواء كان المال المحجوج به موصي به لمعين، أو عينًا مطلقًا، أو مبذولًا، أو مخرجًا من صلب التركة‏.‏ فمن أصحاب الشافعي من استحب ذلك، وقال‏:‏ هو من أطيب المكاسب؛ لأنه يعمل صالحًا ويأكل طيبًا‏.‏ والمنصوص عن أحمد أنه قال‏:‏ لا أعرف في السلف من كان يعمل هذا، وعَدَّه بدعة، وكرهه‏.‏ ولفظ نصه مكتوب في غير هذا الموضع‏.‏ ولم يكره إلا الإجارة والجعالة‏.‏

قلت‏:‏ حقيقة الأمر في ذلك‏:‏ أن الحاج يستحب له ذلك إذا كان مقصوده أحد شيئين‏:‏ الإحسان إلى المحجوج عنه، أو نفس /الحج لنفسه‏.‏

وذلك أن الحج عن الميت إن كان فرضًا فذمته متعلقة به، فالحج عنه إحسان إليهبابراء ذمته، بمنزلة قضاء دينه، كما قال النبي صلى الله عليه وسلم للخثعمية‏:‏ ‏(‏أرأيت لو كان على أبيك دين فقضيتيه أكان يجزي عنه‏؟‏‏)‏ قالت‏:‏ نعم، قال‏:‏ ‏(‏فالله أحق بالقضاء‏)‏، وكذلك ذكر هذا المعني في عدة أحاديث، بين أن الله لرحمته وكرمه أحق بأن يقبل قضاء الدين عمن قضي عنه، فإذا كان مقصود الحاج قضاء هذا الدين الواجب عن هذا، فهذا محسن إليه، والله يحب المحسنين، فيكون مستحبًا، وهذا غالبًا إنما يكون لسبب يبعثه على الإحسان إليه، مثل رحم بينهما، أومودة وصداقة، أو إحسان له عليه يجزيه به، ويأخذ من المال ما يستعين به على أداء الحج عنه، وعلامة ذلك أن يطلب مقدار كفاية حجه، ولهذا جوزنا نفقة الحج بلا نزاع‏.‏ وكذلك لو وصى بحجة مستحبة، وأحب إيصال ثوابها إليه‏.‏

والموضع الثاني‏:‏ إذا كان الرجل مؤثرًا أن يحج محبة للحج وشوقًا إلى المشاعر، وهو عاجز فيستعين بالمال المحجوج به على الحج، وهذا قد يعطي المال ليحج به لا عن أحد، كما يعطي المجاهد المال ليغزو به، فلا شبهة فيه، فيكون لهذا أجر الحج ببدنه، ولهذا أجر الحج بماله، كما في الجهاد فإنه من جهز غازيا فقد غزا، وقد يعطي /المال ليحج به عن غيره، فيكون مقصود المعطي الحج عن المعطي عنه‏.‏ ومقصود الحاج ما يحصل له من الأجر بنفس الحج لا بنفس الإحسان إلى الغير‏.‏

وهذا يتوجه على أصل أبي حنيفة حيث قال‏:‏ الحج يقع عن الحاج، وللمعطي أجر الإنفاق، كالجهاد‏.‏ وعلى أصلنا فإن المصلي والصائم والمتصدق عن الغير والحاج عن الغير له قصد صالح في ذلك العمل، وقصد صالح في عمله عن الغير‏.‏ وإذا كان النبي صلى الله عليه وسلم قد قال‏:‏ ‏(‏الخازن الأمين الذي يعطي ما أمر به كاملًا موفرًا طيبة به نفسه أحد المتصدقين‏)‏، فجعل للوكيل مثل الموكل في الصدقة، وهو نائب، وقال‏:‏ ‏(‏إذا أنفقت المرأة من بيت زوجها غير مفسدة كان لها أجرها بما أنفقت، وللزوج أجره بما اكتسب، وللخادم مثل ذلك‏)‏ ، فكذلك النائب في الحج، وسائر ما يقبل النيابة من الأعمال له أجر، وللمستنيب أجر‏.‏

وهذا أيضًا إنما يأخذ ما ينفقه في الحج كما لا يأخذ إلا ما ينفقه في الغزو، فهاتان صورتان مستحبتان، وهما الجائزتان من أن يأخذ نفقة الحج ويرد الفضل، وأما إذا كان قصده الاكتساب بذلك، وهو أن يستفضل مالا، فهذا صورة الإجارة والجعالة، والصواب أن هذا لا يستحب، وإن قيل بجوازه؛ لأن العمل المعمول للدنيا ليس بعمل صالح في نفسه، إذا لم يقصد /به إلا المال، فيكون من نوع المباحات‏.‏ ومن أراد الدنيا بعمل الآخرة فليس له في الآخرة من خلاق‏.‏

ونحن إذا جوزنا الإجارة والجعالة على أعمال البر التي يختص أن يكون فاعلها من أهل القرب لم نجعلها في هذه الحال إلا بمنزلة المباحات، لا نجعلها من ‏[‏باب القرب‏]‏ ، فإن الأقسام الثلاثة‏:‏ إما أن يعاقب على العمل بهذه النية، أو يثاب، أو لا يثاب ولا يعاقب‏.‏

وكذلك المال المأخوذ‏:‏ إما منهي عنه، وإما مستحب، وإما مباح فهذا هذا والله أعلم‏.‏ لكن قد رجحت الإجارة على‏.‏‏.‏‏.‏ إذا كان محتاجًا إلى ذلك المال للنفقة ومدة الحج، وللنفقة بعد رجوعه أوقضاء دينه، فيقصد إقامة النفقة وقضاء الدين الواجب عليه فهنا تصير الأقسام ثلاثة‏:‏ إما أن يقصد الحج والإحسان فقط، أو يقصد النفقة المشروعة له فقط، أو يقصد كلاهما، فمتي قصد الأول فهو حسن، وإن قصدهما معا فهو حسن إن شاء الله؛ لأنهما مقصودان صالحان، وأما إن لم يقصد إلا الكسب لنفقته فهذا فيه نظر‏.‏ والمسألة مشروحة في مواضع‏.‏

/ وسئل عن امرأة حجت وقصدت أن تحج عن ميتة بأجرة ،فهل لها أن تحج‏؟‏

فأجاب‏:‏

يجوز أن تحج عن الميت بمال يؤخذ على وجه النيابة بالاتفاق‏.‏ وأما على وجه الإجارة ففيه قولان للعلماء، هما روايتان عن أحمد‏:‏

إحداهما‏:‏ يجوز وهو قول الشافعي‏.‏

والثاني‏:‏ لا يجوز، وهو مذهب أبي حنيفة‏.‏ ثم هذه الحاجة عن الميت إن كان قصدها الحج، أو نفع الميت كان لها في ذلك أجر وثواب، وإن كان ليس مقصودها إلا أخذ الأجرة فما لها في الآخرة من خلاق‏.‏

 

وسئل عمن حج عن الغير ليوفي دينه‏؟‏

/فأجاب‏:‏

أما الحاج عن الغير لأن يوفي دينه، فقد اختلف فيها العلماء أيهما أفضل‏.‏ والأصح أن الأفضل الترك، فإن كون الإنسان يحج لأجل أن يستفضل شيئًا من النفقة ليس من أعمال السلف، حتي قال الإمام أحمد‏:‏ ما أعلم أحدًا كان يحج عن أحد بشيء‏.‏ ولو كان هذا عملًا صالحًا لكانوا إليه مبادرين، والارتزاق بأعمال البر ليس من شأن الصالحين‏.‏ أعني إذا كان إنما مقصوده بالعمل اكتساب المال، وهذا المدين يأخذ من الزكاة ما يوفي به دينه خير له من أن يقصد أن يحج ليأخذ دراهم يوفي بها دينه، ولا يستحب للرجل أن يأخذ مالا يحج به عن غيره، إلا لأحد رجلين‏:‏

إما رجل يحب الحج، ورؤية المشاعر، وهو عاجز‏.‏ فيأخذ ما يقضي به وطره الصالح، ويؤدي به عن أخيه فريضة الحج‏.‏

أو رجل يحب أن يبرئ ذمة الميت عن الحج، إما لصلة بينهما، أو لرحمة عامة بالمؤمنين، ونحو ذلك، فيأخذ ما يأخذ ليؤدي به ذلك‏.‏ وجماع هذا أن المستحب أن يأخذ ليحج لا أن يحج ليأخذ، وهذا في جميع الأرزاق المأخوذة على عمل صالح، فمن ارتزق ليتعلم، أو ليعلم، أو ليجاهد، فحسن، كما جاء عن النبي صلى الله عليه وسلم أنه قال‏:‏ ‏(‏مثل الذين يغزون من أمتي، ويأخذون أجورهم، مثل أم موسي ترضع ابنها وتأخذ أجرها‏)‏، شبههم بمن يفعل الفعل/لرغبة فيه كرغبة أم موسي في الإرضاع،بخلاف الظئر المستأجر على الرضاع، إذا كانت أجنبية‏.‏ وأما من اشتغل بصورة العمل الصالح لأن يرتزق فهذا من أعمال الدنيا‏.‏

ففرق بين من يكون الدين مقصوده والدنيا وسيلة، ومن تكون الدنيا مقصوده والدين وسيلة‏.‏ والأشبه أن هذا ليس له في الآخرة من خلاق، كما دلت عليه نصوص ليس هذا موضعها‏.‏

 

وسئل ـ رحمه الله ـ عن رجل عليه دين لشخص غائب ببغداد، والمديون مقيم بمصر وهو معسر، وقصد شخص أن يحج به من عنده‏.‏ فهل يجوز له أن يحج وعليه الدين‏؟‏

فأجاب‏:‏

نعم، يجوز أن يحج المدين المعسر، إذا حججه غيره، ولم يكن في ذلك إضاعة لحق الدَّين، إما لكونه عاجزًا عن الكسب، وإما لكون الغريم غائبًا لا يمكن توفيته من الكسب‏.‏ والله أعلم‏.‏

/ وسئل ـ رحمه الله ـ عن رجل خرج حاجًا إلى بيت الله الحرام بالزاد والراحلة، فأدركه الموت في الطريق فهل يسقط عنه الفرض‏؟‏ أم لا‏؟‏

فأجاب‏:‏

الحمد لله رب العالمين، لا يسقط عنه بذلك، ثم إن كان خرج إلى الحج حين وجب عليه من غير تفريط مات غير عاص، وإن فرط بعد الوجوب مات عاصيا، ويحج عنه من حيث بلغ، وإن كان قد خلف مالا فالنفقة من ذلك واجبة، في أظهر قولي العلماء‏.‏

وتفصيل ذلك‏:‏ أنه إذا استطاع الحج بالزاد والراحلة وجب عليه الحج بالإجماع، فإن حج عقب ذلك بحسب الإمكان ومات في الطريق وجب أجره على الله، ومات وهو غير عاص، وله أجر نيته وقصده‏.‏

فإن كان فرط، ثم خرج بعد ذلك ومات قبل أداء الحج، مات عاصيا آثمًا، وله أجر ما فعله، ولم يسقط عنه الفرض بذلك، بل الحج باق في ذمته، ويحج عنه من حيث بلغ‏.‏ والله أعلم‏.‏

/ باب الإحرام

 

سُـئِلَ شيخ الإسلام عما حكي أصحابنا ـ رحمهم الله ـ في الإحرام‏.‏ هل هـو ركن‏؟‏ أم لا‏؟‏ ثم إنهم ذكروا في موضع آخر‏:‏ أن الإحرام عبارة عن نية الحج، فكيف يتصور الخلاف في النية، مع أنه لا يتصور وجود الحج الشرعي بدونها، أبِنْ لنا عن هذا مثابًا، معظم الأجر‏؟‏

فأجاب‏:‏

الحمد لله رب العالمين، الجواب من طريقين‏:‏ إجمالي وتفصيلي‏.‏

أما الإجمالي فنقول‏:‏ أما النية للحج والعمرة فلا خلاف بين أصحابنا، وسائر المسلمين أن الحج لا يصح إلا بها، إما من الحاج نفسه، وإما من يحج به، كما يحج ولي الصبي، ولو عمل الرجل أعمال الحج من غير قصد لم يصح الحج، كما لا تصح الصلاة والصوم بغير نية، وسواء قيل‏:‏ إن الحج ينعقد بمجرد النية، أو لا ينعقد إلا بها وبشيء آخر من قول أو عمل‏:‏ من تلبية، أو تقليد هدي، على الخلاف /المشهور بين العلماء في ذلك‏.‏

وسواء قلنا‏:‏ إن الإحرام ركن، أم ليس بركن، وهذا أمر لا يقبل الخلاف، فإن العبادات المقصودة يمتنع أن تكون هي العبادات المأمور بها بدون النية‏.‏

وأما انعقاد الإحرام بمجرد النية،ففيه خلاف في المذهب وغيره، كما سنذكره إن شاء الله تعالى‏.‏

وفرق بين النية المشترطة للحج، والنية التي ينعقد بها الإحرام، فإن الرجل يمكنه أن ينوي الحج من حين يخرج من بيته، كما هو الواقع، ويقف ويطوف مستصحبًا لهذه النية، ذكرًا وحكمًا، وإن لم يقصد الإحرام ولا يخطر بقلبه‏.‏

وأصل ذلك أن النية المعهودة في العبادات تشتمل على أمرين‏:‏على قصد العبادة، وقصد المعبود‏.‏ وقصد المعبود هو الأصل الذي دل عليه قوله سبحانه‏:‏ ‏{‏وَمَا أُمِرُوا إِلَّا لِيَعْبُدُوا اللَّهَ مُخْلِصِينَ لَهُ الدِّينَ‏}‏ ‏[‏البينة‏:‏ 5‏]‏ ، وقول النبي صلى الله عليه وسلم‏:‏ ‏(‏فمن كانت هجرته إلى الله ورسوله فهجرته إلى الله ورسوله، ومن كانت هجرته إلى دنيا يصيبها، أو امرأة ينكحها فهجرته إلى ما هاجر إليه‏)‏‏.‏

فإنه صلى الله عليه وسلم ميز بين مقصود ومقصود، وهذا /المقصود في الجملة لابد منه في كل فعل اختياري، قال النبي صلى الله عليه وسلم‏:‏ ‏(‏أصدق الأسماء حارث وهمام‏)‏، فإن كل بشر بل كل حيوان لابد له من همة وهو الإرادة، ومن حرث وهو العمل، إذ من لوازم الحيوان أنه يتحرك بإرادته، ثم ذلك الذي يقصده هو غايته، وإن كان قد يحدث له بعد ذلك القصد قصد آخر، وإنما تطمئن النفوس بوصولها إلى مقصودها‏.‏

وأما قصد العبادة فقصد العمل الخاص، فإن من أراد الله والدار الآخرة بعمله فقد يريده بصلاة ، وقد يريده بحج‏.‏ وكذلك من قصد طاعته بامتثال ما أمره به، فقد أطاعه في هذا العمل‏.‏ وقد يقصد طاعته في هذا العمل، فهذا القصد الثاني مثل قصد الصلاة دون الصوم، ثم صلاة الظهر دون صلاة العصر، ثم الفرض دون النفل، وهذه النية التي تذكر غالبًا في كتب الفقه المتأخرة، وكل واحدة من النيتين فرض في الجملة‏.‏

أما الأولى‏:‏ فبها يتميز من يعبد الله مخلصًا له الدين ممن يعبد الطاغوت، أو يشرك بعبادة ربه، ومن يريد حرث الآخرة ممن يريد حرث الدنيا، وهو الدين الخالص لله الذي تشترك فيه جميع الشرائع، الذي نهي الأنبياء عن التفرق فيه‏.‏ كما قال تعالى‏:‏ ‏{‏شَرَعَ لَكُم مِّنَ الدِّينِ مَا وَصَّى بِهِ نُوحًا وَالَّذِي أَوْحَيْنَا إليكَ وَمَا وَصَّيْنَا بِهِ إِبْرَاهِيمَ وَمُوسَى وَعِيسَى أَنْ أَقِيمُوا الدِّينَ وَلَا تَتَفَرَّقُوا فِيهِ‏}‏ ‏[‏الشوري‏:‏13‏]‏

ولهذا كان دين الأنبياء واحدًا، وإن كانت شرائعهم متنوعة، قال تعالى‏:‏ ‏{‏وَاسْأَلْ مَنْ أَرْسَلْنَا مِن قَبْلِكَ مِن رُّسُلِنَا أَجَعَلْنَا مِن دُونِ الرَّحْمَنِ آلِهَةً يُعْبَدُونَ‏}‏ ‏[‏الزخرف‏:‏ 45‏]‏ ، وقال تعالى‏:‏ ‏{‏وَمَا أَرْسَلْنَا مِن قَبْلِكَ مِن رَّسُولٍ إِلَّا نُوحِي إليهِ أَنَّهُ لَا إِلَهَ إِلَّا أَنَا فَاعْبُدُونِ‏}‏ ‏[‏الأنبياء‏:‏ 25‏]‏ ، وقال تعالى‏:‏ ‏{‏وَلَقَدْ بَعَثْنَا فِي كُلِّ أُمَّةٍ رَّسُولًا أَنِ اعْبُدُواْ اللّهَ وَاجْتَنِبُواْ الطَّاغُوتَ‏}‏ ‏[‏النحل‏:‏ 36‏]‏ ، وقال تعالى‏:‏ ‏{‏وَمَا خَلَقْتُ الْجِنَّ وَالْإِنسَ إِلَّا لِيَعْبُدُونِ‏}‏ ‏[‏الذاريات‏:‏ 56‏]‏ ، وقال تعالى‏:‏ ‏{‏يَا أَيُّهَا النَّاسُ اعْبُدُواْ رَبَّكُمُ‏}‏ ‏[‏البقرة‏:‏ 21‏]‏ ‏.‏

أما النية الثانية‏:‏ فبها تتميز أنواع العبادات، وأجناس الشرائع، فيتميز المصلي من الحاج والصائم، ويتميز من يصلي الظهر ويصوم قضاء رمضان ممن يصلي العصر ويصوم شيئًا من شوال، ويتميز من يتصدق عن زكاة ماله ممن يتصدق من نذر عليه أو كفارة‏.‏

وأصناف العبادات مما تتنوع فيه الشرائع، إذ الدين لا قوام له إلا الشريعة، إذ أعمال القلوب لا تتم إلا بأعمال الأبدان، كما أن الروح لا قوام لها إلا بالبدن، أعني‏:‏ ما دامت في الدنيا‏.‏

وكما أن معاني الكلام لا تتم إلا بالألفاظ، وبمجموع اللفظ والمعني يصير الكلام كلامًا، وإن كان المعني لا يختلف باختلاف الأمم، واللفظ /يتنوع بتنوع الأمم، ثم قد يكون لغة بعض الأمم أبلغ في إكمال المعني من بعض، وبعض ألفاظ اللغة أبلغ تمامًا للمعني من بعض‏.‏

فالدين العام يتعلق بقصد القلب، ثم لابد من عمل بدني يتم به القصد ويكمل، فتنوعت الأعمال البدنية كذلك، وتنوعت لما اقتضته مشيئة الله ورحمته لعباده، وبحكمته في أمره، وإنما وجب كل واحد من النيتين؛ لأن الله فرض علينا أن نقيم دينه بالشريعة التي بعث بها رسوله محمدًا صلى الله عليه وسلم، إذ لا يقبل منا أن نعبده بشريعة غيرها‏.‏

والأعمال المشروعة مؤلفة من أقوال وأعمال مخصوصة، قد يعتبر لها أوقات وأمكنة مخصوصة، وصفات، كلما كان فرضًا علينا أن نعبد الله، وأن تكون العبادة على وصف معين، كان فرضًا علينا أن نقصده القصد الذي نكون به عابدين‏.‏ والقصد الذي به نكون عابدين بنفس العمل الذي أمر به‏.‏

ثم اعلم أن النيات قد تحصل جملة، وقد تحصل تفصيلا، وقد تحصل بطريق التلازم، وقد تتنوع النيات حتي يكون بعضها أفضل من بعض، بحيث يسقط الفرض بأدناها، لكن الفضل لمن أتي بالأعلى‏.‏ وقد يكون الشيء مقصودًا بالقصد الثاني دون الأول، ثم قد يحضر الإنسان القصد الثاني، ويذهل عن القصد الأول، فإن الإنسان في /قصده العبادة قد يريد وجه الله من حيث الجملة، أو يريد طاعته أو عبادته، أو التقرب إليه، أو يريد ثوابه من غير أن يستشعر ثوابًا معينًا، أو يرجو ثوابًا معينًا في الآخرة، أو في الدنيا، أو فيهما، أو يخاف عقابًا إما مجملًا، وإما مفصلًا‏.‏وتفاصيل هذه النياتباب واسع‏.‏

وهو بهذا الاعتبار قد لا يكون له غرض في نوع من الأعمال البدنية دون نوع إلا باعتبار تقييس ذلك نية نوع العمل، فإن من قصد الحج قد يكون قد استشعر الحج من حيث الجملة، وهو أنه قَصْد مكان معين، فيقصد ما استشعره من غير علم، ولا قصد تفصيل أعماله من وقوف وطواف، وترك محظورات، وغير ذلك؛ بل إنما تصير تفاصيل أعمال الحج مقصودة إذا استشعرها، وقد يكون عالمًا بجنس أعمال الحج، وأنها وقوف، وطواف، ونحو ذلك؛ لأنها قد وصفت له، وإن لم يعلم عين المكان، وصورة الطواف، فينوي ذلك‏.‏ وقد يعلم ذلك كله فينوي ما قد علمه‏.‏

وكذلك الكافر إذا أسلم، وقلنا له‏:‏ قد وجبت عليك الصلاة، فإنه يلتزمها وينويها لاستشعاره لها جملة، ولم يعلم صفتها، بل كل من آمن بالرسول صلى الله عليه وسلم إيمانًا راسخًا، فإن إيمانه متضمن لتصديقه فيما أخبره، وطاعته فيما أمره، وإن لم يعلم ولم يقصد أنواع /الأخبار والأعمال،ثم عند العلم بالتفصيل‏:‏ إما أن يصدق، ويطيع، فيصير من الذين آمنوا وعملوا الصالحات، أو يخالف ذلك فيصير إما منافقًا، وإما عاصيا فاسقًا، أو غير ذلك‏.‏

وهذا يبين لك أن الأقسام ثلاثة‏:‏ رجل يقصد عبادة الله وطاعته ولم يقصد العمل المعين المأمور به‏:‏ كرجل له أموال ينفق منها على السائل والمحروم، مريدًا بذلك وجه الله من غير أن يخطر بباله لا زكاة، ولا كفارة، ولا وضعها في الأصناف الثمانية دون بعض، فهذا يثاب على ما يعمله لله سبحانه، لكن بقي في عهدة الأمر بالواجبات‏.‏

ورجل قد يقصد العمل المعين، من غير أن يقصد طاعة الله وعبادته، كمن يدفع زكاة ماله إلى السلطان؛ لئلا يضرب عنقه، أو ينقص حرمته، أو يأخذ ماله، أو قام يصلي خوفًا على دمه، أو ماله أو عرضه‏.‏ وهذه حال المنافقين عمومًا، والمرائين في بعض الأعمال خصوصًا، كما قال تعالى‏:‏ ‏{‏وَإِذَا قَامُواْ إِلَى الصَّلاَةِ قَامُواْ كُسَالَى يُرَآؤُونَ النَّاسَ‏}‏ ‏[‏النساء‏:‏ 241‏]‏ ، وقال‏:‏ ‏{‏فَوَيْلٌ لِّلْمُصَلِّينَ الَّذِينَ هُمْ عَن صَلَاتِهِمْ سَاهُونَ الَّذِينَ هُمْ يُرَاؤُونَ وَيَمْنَعُونَ الْمَاعُونَ‏}‏ ‏[‏الماعون‏:‏ 47‏]‏ ، وقال تعالى‏:‏ ‏{‏وَلاَ يَأْتُونَ الصَّلاَةَ إِلاَّ وَهُمْ كُسَالَى وَلاَ يُنفِقُونَ إِلاَّ وَهُمْ كَارِهُونَ‏}‏ ‏[‏التوبة‏:‏ 54‏]‏ ‏.‏

والقسم الثالث‏:‏ أن يقصد فعل ما أمر به من ذلك العمل المعين/ لله سبحانه‏.‏ واتفق الفقهاء على أن نية نوع العمل الواجب لابد منها في الجملة، فلابد أن يقصد الصلاة أو الحج أو الصيام، ولهم في فروع ذلك تفصيل وخلاف ليس هذا موضعه‏.‏

واختلفوا في النية الأولي‏:‏ وهي نية الإضافة إلى الله تعالى‏.‏ من أصحابنا من قال‏:‏ لا تجب نية الإضافة إلى الله تعالى، ومنهم من فرق بين العبادات المقصودة، كالصلاة، والحج، والصوم، وغير المقصودة كالطهارة والتيمم، وكذلك أصحاب الشافعي لم يعتبروا نية الإضافة إلى الله تعالى، في أصح الوجهين‏.‏

وذلك لأن نفس نية فعل العبادة، تتضمن الإضافة، كما تتضمن عدد الركعات، فإن الصلاة لا تشرع إلا لله تعالى، كما أن صلاة الظهر في الحضر لا تكون إلا أربع ركعات، فلهذا لم تجب نية الإضافة‏.‏

وأيضًا، النية الحكمية تقوم مقام النية المستحضرة، وإن كانت النية المستحضرة أكمل وأفضل، فإذا نوي العبد صلاة الظهر في أول الأمر أجزأه استصحاب النية حكمًا، فكذلك العبد المؤمن الذي دخل الإيمان في قلبه قد نوي نية عامة‏:‏ أن عباداته هي له لا لغيره، فإنه إن لم يكن كذلك كان منافقًا‏.‏

فإذا نوي عبادة معينة من صلاة وصوم كان مستصحبًا لحكم تلك /النية الشاملة لجميع أنواع العبادات، كما أنه في الصلاة إذا نوي الركوع والسجود في أثناء الصلاة ، كان مستصحبًا لحكم نية الظهر أو العصر الشاملة لجميع أعمال الصلاة ، ثم إن أتي بما ينقض علم تلك أفسـدها ، فإنه يكون فاسخًا لها كما لو فسخ نية الصلاة في أثنائها، فإذا قام يصلي لئلا يضرب أو يؤخذ ماله، أو أدي الزكاة لئلا يضرب، كان قد فسخ تلك النية الإيمانية‏.‏

فلهذا كــان الصحيح عنـدنا وعنـد أكثر العلـماء أن هــذه العبادة فاسـدة لا يسـقط الفـرض بهذه النية، وقـلنا‏:‏ إن عبادات المرائين الواجبـة باطلـة، وأن السلطان إذا أخـذ الزكاة من الممتنع من أدائها لم يجزه في الباطن على أصح الوجهين، لكن لما كان غالب المسلمين يولد بين أبـوين مسلمين، يصيرون مسلمين إسلامًا حكميا مـن غـير أن يوجـد منهم إيمان بالفعل، ثم إذا بلغـوا فمنهم مـن يرزق الإيمان الفعلى، فيـؤدي الفـرائض ومنهم مـن يفعل مـا يفعله بحكم العادة المحضة، والمتابعة لأقاربه، وأهل بلده، ونحو ذلك؛ مثـل أن يؤدي الزكاة لأن العادة أن السلطان يأخذ الكلف، ولم يستشعر وجوبها عليه لا جملة ولا تفصيلا‏.‏ فلا فرق عنده بين الكلف المبتدعة، وبين الزكاة المشروعة، أو من يخـرج من أهل مكة كل سنة إلى عرفات؛ لأن العادة جارية بذلك، من غير استشعار أن هـذا عبادة لله، لا جملـة ولا تفصيلا، أو يقاتل الكفار /لأن قومه قاتلوهم، فقاتل تبعًا لقـومه، ونحو ذلك، فهؤلاء لا تصح عبادتهم بلا تردد، بل نصوص الكتاب والسنة وإجماع الأمة قاضية بأن هذه الأعمال لاتسقط الفرض، فلا يظن ظان أن قول من قال من الفقهاء‏:‏ أن نية الإضافة ليست واجبة‏:‏ أراد مثل هؤلاء؛ وإنما اكتفي فيها بالنية الحكمية، كما قدمناه‏.‏

ففرق بين من لم يرد الله بعمله لا جملة ولا تفصيلا، وبين من أراده جملة وذَهَل عن إرادته بالعمل المعين تفصيلا‏.‏

فإن أحدًا من الأمة لا يقول‏:‏ إن الأول عابد لله، ولا مؤد لما أمر به أصلا؛ وهذا ظاهر، ومن أصحابنا من اشترط هذه النية عند العمل المعين، فقال‏:‏ النية الواجبة في الصلاة أن يعتقد أداء فعل ما افترض الله عليه، من فعل الصلاة بعينها، وامتثال أمره الواجب من غير رياء، ولا سمعة‏.‏ ولفظ بعضهم‏:‏ اتباع أمره، وإخلاص العمل له‏.‏ وعلى هذا يدل كلام أكثرهم، فإنهم يستدلون على النية الواجبة في الطهارة والصلاة ونحوهما بقوله‏:‏ ‏{‏وَمَا أُمِرُوا إِلَّا لِيَعْبُدُوا اللَّهَ مُخْلِصِينَ لَهُ الدِّينَ‏}‏ ‏[‏البينة‏:‏ 5‏]‏ ، قالوا‏:‏ وإخلاص الدين هو النية‏.‏ ومن اغتسل للتبرد أو التنظف لم يخلص الدين لله، ويستدلون بقوله‏:‏ ‏{‏مَن كَانَ يُرِيدُ حَرْثَ الْآخِرَةِ نَزِدْ لَهُ فِي حَرْثِهِ وَمَن كَانَ يُرِيدُ حَرْثَ الدُّنْيَا نُؤتِهِ مِنْهَا وَمَا لَهُ فِي الْآخِرَةِ مِن نَّصِيبٍ‏}‏ ‏[‏الشوري‏:‏ 20‏]‏ ، قالوا‏:‏ ومن اغتسل للتبرد والتنظف لم يرد حرث الآخرة /فيجب ألا يخلص له‏.‏

ومعلوم أن هاتين الآيتين تدلان على وجوب العمل لله والدار الآخرة، أبلغ من دلالتهما على وجوب نية العمل المعين، لكن من نصر الوجه الأول قد يقول‏:‏ نية النوع مستلزمة لنية الجنس، فإن من نوي العمل المعين فقد نوي العمل لله بحكم إيمانه، كما تقدم‏.‏

ومن نصر الثاني يقول‏:‏ النية الواجبة لا تتقدم على العمل بعشرين سنة، بل إنما تقدم عليه إما بالزمن اليسير، وإما من أول وقت الوجوب، على اختلاف الوجهين‏.‏

وأيضًا، فالدليل الظاهر والقياس، يوجب وجود النية المحضرة في جميع العبادة، وإنما عفي عن استصحابها في أثناء العبادة، لما في ذلك؛ من المشقة، ولا مشقة في نية العبادة لله عند فعل كل عبادة‏.‏

وأيضًا، فغالب الناس إسلامهم حكمي، وإنما يدخل في قلوبهم في أثناء الأمر، إن دخل، فإن لم توجب عليهم هذه النية لم يقصدوها، فتخلو قلوبهم منها، فيصيرون منافقين، إنما يعملون الأعمال عادة ومتابعة، كما هو الواقع في كثير من الناس‏.‏